دروس من الماضي- المفاوضات السورية الإسرائيلية ومستقبل السيادة

لطالما اكتنف الغموض الشديد مسار المفاوضات السورية الإسرائيلية، حيث كانت تتأرجح بين الإنكار التام والتسريبات المحدودة التي تثير الجدل والنقاش العام. واليوم، يبدو أن إسرائيل تسعى جاهدة لتحويل ملف الجولان إلى ساحة تفاوضية مغايرة، وذلك من خلال استغلال ملف الدروز في الوقت الراهن، ومن ثم الاعتماد على "قسد" لاحقًا، بهدف إخلاء المنطقة الجنوبية السورية بأكملها من السلاح، وهو ما يشكل تحديًا بالغ التعقيد للدولة السورية الناشئة.
وفي هذا السياق، يصبح من الضروري بمكان أن نتأمل مليًا وبعين ناقدة وروح تحليلية عميقة، دروس الماضي التفاوضي الطويل، لكي ندرك بوضوح وجلاء: هل كانت السلطات السورية تتفاوض حقًا من أجل مصلحة الوطن وسيادته، أم أنها كانت تهدف فقط إلى المناورة من أجل ضمان بقائها في السلطة؟
إن قصة التفاوض السوري الإسرائيلي بدأت فعليًا مع احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان في عام 1967، ليصبح هذا الاحتلال حجر الزاوية وأساس أي حديث عن السلام أو الصراع بين الطرفين.
جدلية الأرض والسلطة
محطات ما قبل المفاوضات ما بين 1967 و1973:
خلال الفترة الممتدة بين عامي 1967 و1973، وقبل اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول، هل شهدت العلاقات السورية الإسرائيلية أي شكل من أشكال المفاوضات؟ الإجابة بكل صراحة ووضوح هي: لم تحدث مفاوضات مباشرة بين الطرفين، ولكن جرت محاولات دبلوماسية عديدة، باءت جميعها بالفشل الذريع ولم تحقق أي تقدم أو انفراجة في الملف.
قرار أممي تبددت آماله: القرار 242 (نوفمبر/تشرين الثاني 1967)
عقب احتلال إسرائيل للجولان وسيناء والضفة الغربية في حرب عام 1967، صدر قرار مجلس الأمن رقم 242. وقد دعا هذا القرار إلى مبدأين جوهريين: أولهما، انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها، وثانيهما، الاعتراف بحق كل دولة في العيش بأمان وسلام داخل حدود معترف بها.
اتخذت سوريا موقفًا حاسمًا ورافضًا للقرار، خاصة وأنها كانت تخضع لحكم حزب قومي أيديولوجي [البعث]، والذي استلم السلطة بحجة أن الحكم قبل عام 1963 كان انفصاليًا. كما أن القرار الصادر لم يشر صراحة إلى "الانسحاب الكامل"، واعتبرته سوريا مساواة بين الظالم والمظلوم.
في المقابل، أعلنت إسرائيل قبولها للقرار من الناحية النظرية، إلا أنها رفضت الانسحاب الكامل، وخاصة من القدس والجولان. وهكذا، ولد القرار كبصيص أمل لحل النزاع في المنطقة، ولكنه سرعان ما تبددت آماله بسبب تباين التفسيرات وتمسك إسرائيل بالسيطرة على القدس ومرتفعات الجولان ذات الأهمية الاستراتيجية.
جهود أممية لم تثمر: مهمة غونار يارنغ (1967-1971)
تم تكليف غونار يارنغ بمهمة متابعة تنفيذ القرار رقم 242، وقام بجولات مكوكية بين دمشق وتل أبيب، في محاولة لاستكشاف مواقف الطرفين وتقريب وجهات النظر بينهما.
أبدت إسرائيل استعدادها للدخول في نقاشات ومباحثات دون الالتزام بالانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، حيث كانت تسعى لتسويق نفسها كدولة عقلانية ومنفتحة على التفاوض. وعلى الجانب الآخر، أصرت سوريا على مبدأ عدم التفاوض مع إسرائيل قبل الانسحاب الكامل من الجولان، وذلك لأسباب هيكلية متجذرة في النظام السوري.
وقد ذكر يارنغ في تقريره أن إسرائيل ترفض الانسحاب الكامل، بينما ترفض سوريا الاعتراف بإسرائيل أو التفاوض معها في ظل استمرار الاحتلال. وهكذا، تحولت الجهود الدولية إلى مساعٍ عقيمة في ظل وجود إرادتين متعارضتين.
التركيز على جبهات أخرى: وساطات أميركية (نيكسون وكيسنجر)
في تلك الفترة، لم يركز الرئيس الأميركي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر على المسار السوري بشكل جاد، بل انصب اهتمامهما بشكل أساسي على مصر والأردن، في حين ظلت سوريا محافظة على موقفها المتشدد ورفضها القاطع للتفاوض دون انسحاب إسرائيلي مسبق من الأراضي المحتلة.
لم تكن دمشق مستعدة للتخلي عن أوراقها قبل أن تفرض واقعًا جديدًا على الأرض.
مسار المفاوضات بين سوريا وإسرائيل
اتفاق فض الاشتباك (1974): تهدئة الجبهة وترتيب الأوضاع الداخلية
كان هذا الاتفاق، الذي توسط فيه وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر، بمثابة نقطة الانطلاق العلنية للمفاوضات بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول.
في ذلك الوقت، لم يكن هدف النظام السوري هو تهدئة الجبهة بهدف استعادة الجولان بشكل فوري، بل كان الهدف الأساسي للرئيس حافظ الأسد هو إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية التي لم تكن قد استقرت بعد، وتعزيز شرعيته الإقليمية والدولية بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول التي أحدثت تحولًا كبيرًا في المشهد الإقليمي.
أما هدف إسرائيل من هذا الاتفاق، فكان يتمثل في كونه خطوة نحو تحييد الجبهة السورية بشكل جزئي، وضمان أمن حدودها بعد أن استولت على مساحات واسعة من أراضي الدول المجاورة، والتفرغ لملفي مصر والأردن.
مؤتمر مدريد (1991): مناورة لكسب الوقت وتجنب العزلة
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتغير موازين القوى العالمية، جاء مؤتمر مدريد كمبادرة أميركية طموحة لجمع الأطراف العربية والإسرائيلية على طاولة المفاوضات. دخلت دمشق المفاوضات بخطاب قومي حاد، ولكنها في الواقع التزمت بقواعد اللعبة الدولية.
كان من الواضح أن حافظ الأسد كان يتفاوض من أجل كسب الوقت وتجنب العزلة السياسية، ومحاولة استيعاب المتغيرات الدولية التي طرأت بعد حرب الخليج، وليس من أجل استعادة الأرض. أما الهدف الإسرائيلي، فكان يكمن في كسر العزلة الإقليمية دون تقديم تنازلات جوهرية.
مفاوضات جنيف (1999-2000)
في عهد الرئيس حافظ الأسد، وتحت رعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، بلغت هذه المفاوضات السرية ذروتها. وكادت دمشق أن توقع اتفاقًا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ولكن في لحظة درامية شهيرة، رفض الرئيس الأسد الأب التوقيع على الخريطة بعد أن اكتشف أنها لا تعيده إلى خط الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 بالكامل.
وتكرست بعدها مقولة: "لا مفاوضات دون سيادة كاملة". ولكن السؤال الجوهري الذي طرحه السوريون هو: هل كنا نتفاوض حقًا من أجل السيادة الوطنية الكاملة، أم من أجل تعزيز صورة "الزعيم" وشعار الممانعة؟ خاصة وأن حافظ الأسد كان يعاني من اعتلال صحته ويرغب في تخليد ذكراه كزعيم عروبي.
مفاوضات غير مباشرة عبر تركيا (2008): بحث عن شرعية دولية لا اختراق حقيقي
في عهد الرئيس بشار الأسد، بدأت وساطة تركية مباشرة من الرئيس رجب طيب أردوغان لعقد اتفاق سوري إسرائيلي. وفي ذلك الوقت، قدمت دمشق وثيقة غير مسبوقة تضمنت تنازلات أمنية، وحتى ترتيبات مشتركة محتملة في الجولان المحتل.
كان الهدف الرئيسي لبشار الأسد هو كسر العزلة السياسية التي فرضت عليه بعد مشاركته في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولكن فجأة انهارت المحادثات بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نهاية العام، ليتحول الخطاب الرسمي إلى شعار "الممانعة".
والحقيقة أن مفاوضات بشار الأسد، شأنها شأن مفاوضات والده، لم تكن تدور أبدًا حول الأرض بمعناها الكامل، بل كانت تدور في جوهرها حول السلطة والبقاء في الحكم.
كان التفاوض مجرد تكتيك لرفع العقوبات الدولية المفروضة على النظام، واكتساب الاعتراف الإقليمي، وشراء الوقت، باعتبارهم عائلة عروبية مقاومة وممانعة للتطبيع مع إسرائيل.
تجارب مفاوضات إقليمية: دروس يجب أن نتعلمها
بالمقارنة مع تجربتنا، نجد أن الرئيس المصري أنور السادات قد ذهب إلى كامب ديفيد بجرأة غير مسبوقة، وتمكن من استعادة سيناء بالكامل مقابل السلام المنفرد مع إسرائيل، ولكنه دفع ثمنًا سياسيًا باهظًا على الصعيد العربي بتفكيك المنظومة العربية.
أما الفلسطينيون، فقد دخلوا أوسلو مضطرين، في لحظة انهيار إقليمي وعربي، ولكنهم ارتكبوا خطأً فادحًا عندما تنازلوا عن جوهر قضيتهم مقابل وعود مستقبلية لم تتحقق على أرض الواقع. وفي المقابل، تفاوض الأردن في وادي عربة بهدوء وواقعية، انطلاقًا من كونه دولة ضعيفة الموارد تحيط بها دول إقليمية كبرى، وتمكن من الحفاظ على حدوده، وحقق استقرارًا هشًا في ظل ظروف إقليمية معقدة.
تُظهر هذه التجارب الإقليمية بشكل واضح أن النية الصادقة للتفاوض، ومعرفة سقف المطالب الواقعي، وفهم طبيعة الخصم ونقاط قوته وضعفه، هي شروط أساسية وحاسمة لتحقيق أي نجاح تفاوضي في المستقبل.
أخطاء المفاوض السوري: بوصلة للمستقبل
من خلال استقراء التجارب السابقة، يبرز الخطأ الأكبر في أداء المفاوض السوري تاريخيًا، وهو خطأ مركب ومتجذر في بنية النظام وطريقة تعاطيه مع قضايا الوطن المصيرية:
- الخطأ الأول: التفاوض بلا خريطة طريق واضحة المعالم، وبلا سند شعبي حقيقي يضفي الشرعية على القرارات المتخذة. هذا الغياب للرؤية الإستراتيجية والشرعية الشعبية جعل المفاوض السوري يدخل طاولة المفاوضات وهو يخشى من كشف نواياه الحقيقية، أو ربما لا يمتلك نوايا واضحة من الأساس. في المقابل، يبدو الخصم أكثر وضوحًا منه في تحديد الأهداف والمطالب، مما يمنحه اليد العليا في أي جولة من جولات التفاوض.
التفاوض من موقع ضعف داخلي، أو من خلف ظهر الشعب، هو وصفة مضمونة للفشل الذريع، لأنه يفقد المفاوض أهم أوراقه الرابحة: الإرادة الوطنية الجامعة.
- الخطأ الثاني: أن التفاوض كان يتم لذاته، وليس من أجل تحقيق نتيجة ملموسة على أرض الواقع. لم يكن الهدف هو التوصل إلى حل شامل وعادل ينهي النزاع، بل كان الهدف هو "الجلوس على الطاولة" بحد ذاته.
لقد أمضى الرئيس الأسد الأب أكثر من عقد من الزمان في مفاوضات لم يكن يريد منها الوصول إلى حل شامل، بل كان يسعى إلى تسكين مؤقت للأوضاع، أو استخدامها كواجهة دبلوماسية لتخفيف الضغوط الدولية. أما الابن، فقد استخدم التفاوض كورقة في لعبة الأمم المعقدة، لرفع العقوبات المفروضة على نظامه أو كسب اعتراف إقليمي، وليس كورقة في مشروع وطني للتحرير واستعادة الحقوق المغتصبة.
هذا التكتيك، وإن منح النظام بعض المتنفسات المؤقتة، إلا أنه أضاع فرصًا تاريخية ثمينة لاستعادة الأرض.
- الخطأ الثالث: غياب الابتكار والإبداع في الطرح التفاوضي. فمعظم ما قُدم من جانب عائلة الأسد كان تقليديًا، يعتمد على استرجاع المبادرة العربية للسلام، أو الالتفاف حول خطاب "السلام مقابل الأرض"، دون تقديم تفاصيل عملية أو رؤى خلاقة ومبتكرة. لم يحاولوا طرح مبادرات حقيقية تضعنا في موقع الفاعل الذي يقترح الحلول، لا المتلقي الذي ينتظر التنازلات من الطرف الآخر.
في عالم التفاوض المعاصر، يمكن للابتكار في الأفكار، وتقديم حلول غير تقليدية للمشاكل المستعصية، أن يغيرا ديناميكية الجلسات ويخلقا مساحات جديدة للاتفاق والتفاهم، وهو ما افتقدناه بشدة في تجربتنا التفاوضية.
هل نتعلم من الماضي لنصنع مستقبلا أفضل؟
إذا كنا نحلم بمفاوضات مستقبلية واعدة ومثمرة، فإنه يتعين علينا أن ندرك هذه الدروس بعمق، وأن نعمل جاهدين على:
- بناء موقف وطني موحد وشرعية شعبية حقيقية: فالتفاوض دون سند شعبي وشرعية وطنية هو مغامرة خاسرة حتمًا. يجب أن يكون الشعب هو صاحب القرار والداعم الأكبر للمفاوض، وأن يكون الموقف التفاوضي نابعًا من إجماع وطني حقيقي.
- امتلاك جرأة الطرح وابتكار الحلول: يجب ألا نخجل أبدًا من طرح تصورات جديدة ومبتكرة تحفظ الحقوق الوطنية وتدير الواقع بذكاء وحكمة، بدلاً من التمسك بالخطاب التقليدي الذي لم يعد يفضي إلى شيء. يجب أن نكون السباقين في تقديم المبادرات التي تعكس رؤيتنا لمستقبل المنطقة، لا مجرد ردود أفعال على مبادرات الآخرين.
- فهم الخصم على حقيقته، لا كما نتخيله: إسرائيل دولة لا تتهاون أبدًا إلا من موقع القوة، ولا تقدم التنازلات إلا عندما تشعر أن البديل الإستراتيجي سيكون أكثر كلفة عليها. يجب فهم هذه العقلية بعمق، ودراسة نقاط قوتها وضعفها، وكيفية استغلالها لصالح الموقف التفاوضي السوري. فالتفاوض ليس صراعًا عاطفيًا، بل هو عملية عقلانية تتطلب فهمًا دقيقًا للطرف الآخر.
- إدراك أننا لا نفاوض من أجل السلام فقط، بل من أجل الكرامة والسيادة الوطنية: فالسلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من موقع القوة والندية.
المفاوضات في هذا السياق، إذا ما تمت، يجب أن تكون ذات إستراتيجية واضحة المعالم والأهداف:
- هدفها الأول والأخير هو استعادة السيادة الوطنية الكاملة على الأراضي المحتلة بأي طريقة أو وسيلة ممكنة.
- ترسيخ أمن واستقرار حقيقيين ودائمين في المنطقة الجنوبية، لا عبر التنازل عن السيادة أو جعلها منطقة منزوعة السلاح على حساب الأمن القومي، بل عبر اتفاقيات عادلة تضمن حقوق الجميع وتحقق التنمية المستدامة في المنطقة.
- بناء دولة قوية ومستقرة داخليًا، قادرة على حماية حدودها ومصالح شعبها بكل الوسائل المتاحة.
إن سجل المفاوضات السورية الإسرائيلية يمثل كنزًا دفينًا من الدروس والتجارب المريرة، ليس فقط لاستيعاب هذه الدروس وتجنب تكرار الأخطاء في المستقبل، بل لتشكيل بوصلة ترشدنا نحو المستقبل، وتضمن تحقيق سيادة سوريا ومصالحها الوطنية العليا في أي مسار تفاوضي قادم.
إن المستقبل الحقيقي لسوريا يكمن في قوتها الداخلية، وفي وحدتها الوطنية، وفي قدرتها على التفاوض من موقع المبادئ والكرامة، لا من موقع الضعف أو الحاجة إلى البقاء.